:: شعر ::

احمد مطر
لافتات 1
التهمـة
كنتُ أسيرُ مفـرداً
أحمِـلُ أفكـاري معـي
وَمَنطِقي وَمَسْمعي
فازدَحَمـتْ
مِن حَوْليَ الوجـوه
قالَ لَهمْ زَعيمُهم: خُـذوه
سألتُهُـمْ: ما تُهمتي؟
فَقيلَ لي:
تَجَمُّعٌ مشبــوه!
ثورة الطين
وضعوني في إنـاءْ
ثُمّ قالوا لي : تأقلَـمْ
وأنا لَستُ بماءْ
أنا من طينِ السّمـاءْ
وإذا ضـاقَ إنائـي بنمـوّي
..يتحطّمْ !
**
خَيَّروني
بَيْنَ مَوتٍ وَبَقاءْ
بينَ أن أرقُـصَ فوقَ الحَبْلِ
أو أرقُصَ تحتَ الحبلِ
فاخترتُ البقـاءْ
قُلتُ : أُعـدَمْ.
فاخنقـوا بالحبلِ صوتَ الَببَّغـاءْ
وأمِـدّوني بصمـتٍ أَبَـديٍّ يتكلّمْ !
قَلـم
جسَّ الطبيبُ خافقـي
وقـالَ لي :
هلْ ها هُنـا الألَـمْ ؟
قُلتُ له: نعَـمْ
فَشـقَّ بالمِشـرَطِ جيبَ معطَفـي
وأخـرَجَ القَلَــمْ!
**
هَـزَّ الطّبيبُ رأسَـهُ .. ومالَ وابتَسـمْ
وَقالَ لـي :
ليسَ سـوى قَلَـمْ
فقُلتُ : لا يا سَيّـدي
هـذا يَـدٌ .. وَفَـمْ
رَصـاصــةٌ .. وَدَمْ
وَتُهمـةٌ سـافِرةٌ .. تَمشي بِلا قَـدَمْ !
نبـوءة
إسمعـوني قَبْـلَ أن تَفتَقـدوني
يا جماعــهْ
لَسـتُ كذّابـاً ..
فمـا كانَ أبي حِزبـاً
ولا أُمّـي إذاعـهْ
كُلُّ ما في الأمـرِ
أنَّ العَبـْـدَ
صلّـى مُفـرداً بالأمسِ
في القُدسِ
ولكـنَّ " الجَماعـَهْ "
سيُصلّونَ جماعَــهْ !
عقوبات شرعيّـة
بتَرَ الوالـي لساني
عندما غنّيتُ شِعْـري
دونَ أنْ أطلُبَ ترخيصاً بترديدالأغاني
**
بَتَرَ الوالي يَـدي لمّـا رآني
في كتاباتيَ أرسلتُ أغانيَّ
إلى كُـلِّ مكـانِ
**
وَضَـعَ الوالـي على رِجلَيَّ قيداً
إذْ رآني بينَ كلِّ الناسِ أمشي
دونَ كفّـي ولسانـي
صامتـاً أشكـو هَوانـي.
**
أَمَـرَ الوالي بإعدامـي
لأنّـي لم أُصَـفّقْ
- عندما مَرَّ -
ولَـم أهتِفْ..
ولَـمْ أبرَحْ مكانـي !
القُرصـان
بَنينـا مِن ضحايـا أمسِنا جِسْـرا
وقدّمنا ضحايـا يومنِـا نَذْرا
لنلقى في غَـدٍ نصْـرا.
ويمَّمْنـا إلى المسْـرى
وكِدنـا نَبلُغُ المسْـرى.
ولكـنْ قامَ عبـدُ الذّاتِ
يدْعـو قائلاً : صـبْرا.
فألقينـا بِبابِ الصّبر قتلانا
وقلنا: إنّـهُ أدرى.
وبعْـدَ الصّبرِ
ألفَينـا العِـدى قد حَطّمـوا الجِسـرا
فقُمنا نطْلبُ الثّأرا
ولكـنْ قامَ عبـدُ الذّاتِ
يدعـو قائلاً: صبْـرا
فألقينا بِبابِ الصّبرِ آلافـاً مِنَ القتلى
وآلافـاً مِن الجرحـى
وآلافـاً مِـن الأسـرى
وهَـدَّ الحِمْـلُ رحْـمَ الصّبرِ
حتّى لم يُطْـقْ صَبـرا
فأنجَـبَ صبرُنا: "صـبرا"!
وعبـدُ الذّاتِ
لمْ يُرجِـعْ لنا مِن أرضِنا شِـبرا.
ولَمْ يَضمَـنْ لِقتـلانا بها قَبْرا.
ولمْ يُلقِ العِـدى في البحْـرِ
بلْ ألقى دِمانا وامتَطـى البحْرا.
فسًبحـانَ الذي أسْـرى
بعبـدِ الذَّاتِ
مِن صَـبرا إلى مِصـرا
وما أسرى بهِ للضفّـةِ الأُخـرى !
أحبّـك
يا وَطَـني
ضِقْتَ على ملامحـي
فَصِـرتَ في قلـبي.
وكُنتَ لي عُقـوبةً
وإنّني لم أقترِفْ سِـواكَ من ذَنبِ !
لَعَنْـتني ..
واسمُكَ كانَ سُبّتي في لُغـةِ السّـبِّ!
ضَـربتَني
وكُنتَ أنتَ ضاربـي ..وموضِعَ الضّـربِ!
طَردْتَـني
فكُنتَ أنتَ خطوَتي وَكُنتَ لي دَرْبـي !
وعنـدما صَلَبتَني
أصبَحـتُ في حُـبّي
مُعْجِــزَةً
حينَ هَـوى قلْـبي .. فِـدى قلبي!
يا قاتلـي
سـامَحَكَ اللـهُ على صَلْـبي.
يا قاتلـي
كفاكَ أنْ تقتُلَـني
مِنْ شِـدَّةِ الحُـبِّ !
قُبلـة بوليسيّة
عِنـدي كَلامٌ رائِـعٌ لا أستَطيعُ قولَهْ
أخـافُ أنْ يزْدادَ طيني بِلّـهْ.
لأنَّ أبجديّتي
في رأيِ حامـي عِـزّتي
لا تحتـوي غيرَ حروفِ العلّـهْ !
فحيثُ سِـرتُ مخبرٌ
يُلقـي عليَّ ظلّـهْ
يلْصِـقُ بي كالنّمْلـهْ
يبحثُ في حَقيبـتي
يسبـحُ في مِحـبرَتي
يطْلِـعُ لي في الحُلْـمِ كُلَّ ليلهْ!
حتّى إذا قَبّلتُ، يوماً، زوجَـتي
أشعُرُ أنَّ الدولـهْ
قَـدْ وَضَعَـتْ لي مُخبراً في القُبلـهْ
يقيسُ حجْـمَ رغبَـتي
يطْبَعُ بَصمَـةً لها عن شَفَتي
يرْصـدُ وعَـيَ الغفْلـهْ!
حتّى إذا ما قُلتُ، يوماً، جُملـهْ
يُعلِنُ عن إدانتي
ويطرحُ الأدلّهْ!
**
لا تسخروا منّي .. فَحتّى القُبلهْ
تُعَـدُّ في أوطاننـا
حادثَـةً تمسُّ أمـنَ الدولـهْ!
دمعـة على جُثمـان الحُريّـة
أنـا لا أكتُبُ الأشعـارَ
فالأشعـارُ تكْتُبـني
أُريـدُ الصَّمـتَ كي أحيـا
ولكـنَّ الذي ألقـاهُ يُنطِقٌـني
ولا ألقـى سِـوى حُزُنٍ
على حُزُنٍ
علـى حُزُنِ.
أَأكتُبُ "أنّني حيٌّ" على كَفَني؟
أَأكتُبُ "أنَّني حُـرٌّ"
وحتّى الحَرفُ يرسِـفُ بالعُبوديّـهْ؟
لقَـدْ شيَّعتُ فاتنـةً
تُسمّى في بِـلادِ العُربِ تخريبـاً
وإرهـاباً
وطَعْناً في القوانينِ الإلهيّـهْ
ولكنَّ اسمَهـا
واللـهِ
لكنَّ اسمَها في الأصْـلِ
.. حُريّــهْ !
سَـواسية
(1)
سَـواسِيَهْ
نَحـنُ كأسنانِ كِـلابِ الباديـهْ
يصْفَعُنا النِّباحُ في الذِّهابِ والإيابْ
يصفَعُنا التُرابْ
رؤوسُنا في كُلِّ حَرْبٍ باديَهْ
والزَّهـوُ للأذْنابْ
وبَعْضُنا يَسحَقُ رأسَ بعْضِنا
كي تَسْمَـنَ الكِلابْ!
(2)
سَواسِيَـهْ
نحنُ جُيـوبُ الدّالِيَـهْ
يُديرُنا ثَـورٌ زوى عَينيـهِ خَلفَ الأغطيَهْ
يسيرُ في استقامـَةٍ مُلتويهْ
ونحْـنُ في مَسيرِهِ
نَغـرقُ كُلَّ لَحظَـةٍ
في السّاقيَـهْ
**
يَدورُ تحتَ ظِلّةِ العريشْ
وظِلُّنا خُيوطُ شَمسٍ حاميـهْ
ويأكُلُ الحَشيشْ
ونحْـنُ في دورَتِـهِ
نسقُطُ جائِعينَ .. كي يعيشْ!
(3)
نحْـنُ قطيعُ الماشيَـهْ
تسعى بِنـا أظلافُنـا لِمَوْضِـعِ الحُتوفْ
على حِـداءِ "الرّاعيــهْ"
وأَفحَـلُ القادَةِ في قَطيعِنا
.. خَـروفْ !
(4)
نَحـنُ المصابيحُ بِبَيتِ الغانيَـهْ
رؤوسُنا مَشدودَةٌ في عُقَدِ المشانِقْ
صُـدورُنا تلهو بها الحَرائِـقْ
عيونُنـا تغْسِـلُ بالدُّمـوعِ كلَّ زاويَـهْ
لكنَهـا تُطْفأُ كُلَّ لَيلَـةٍ
عِنـدَ ارتكابِ المَعصِيَـهْ !
(5)
نَحنُ لِمَـنْ؟
وَنحْـنُ مَـنْ؟
زَمانُنـا يَلْهَثُ خارجَ الزّمَـنْ
لا فَـرقَ بينَ جُثّـةٍ عاريَـةٍ
وجُثّـةٍ مُكْتَسيَهْ.
سَـواسِيَهْ
موتى بِنعْشٍ واسِعٍ .. يُدعى الوَطَـنْ
أسْمى سَمائِهِ كَفَـنْ.
بَكَتْ علينا الباكِيَـهْ
وَنَـامَ فوقَنا العَفَـنْ !
الثور والحظـيرة
الثورُ فرَّ من حظيرةِ البقـرْ
الثورُ فـرً.
فَثارتْ العُجـولُ في الحَظيرهْ
تبكي فِـرارَ قائدِ المَسيرهْ.
وشُكِّـلتْ على الأَثَـرْ
مَحكَمـةٌ.. ومؤتَمـرْ.
فقائلٌ قالَ : ٌقَضـاءٌ وَقَـدَرْ
وقائلٌ: لقَـدْ كَفَـرْ
وقائلٌ: إلى سَـقَرْ
وبعضُهمْ قالَ: امنَحـوهُ فرصَـةً أخـيرهْ
لَعَلّـهُ يعـودُ للحظـيرهْ.
وفي خِتـام المؤتَمــرْ
تقاسَمـوا مَرْبِطَـهُ..وجَمّـدوا شَعيرَهْ
**
وبعـدَ عامٍ وقَعَتْ حادِثَـةٌ مُثيرهْ
لم يَرجِـعِ الثَّـورُ
ولكـنْ
ذَهَبتْ وراءهُ الحَظـيرهْ!
اعترافـات كذّاب
بِملءِ رغبتي أنا
ودونَمـا إرهابْ
أعترِفُ الآنَ لكم بأنّني كذَّأبْ!
وقَفتُ طول الأشهُرِ المُنصَرِمـهْ
أخْدَعُكُمْ بالجُمَلِ المُنمنَمـهْ
وأَدّعي أنّي على صَـوابْ
وها أنا أبرأُ من ضلالتي
قولوا معي: إغْفـرْ وَتُبْ
يا ربُّ يا توّابْ.
**
قُلتُ لكُم: إنَّ فَمْي
في أحرُفي مُذابْ
لأنَّ كُلَّ كِلْمَةٍ مدفوعَـةُ الحسابْ
لدى الجِهاتِ الحاكِمـهْ.
أستَغْفرُ اللهَ .. فما أكذَبني!
فكُلُّ ما في الأمرِ أنَّ الأنظِمـهْ
بما أقولُ مغْرَمـهْ
وأنّها قدْ قبّلتني في فَمي
فقَطَّعتْ لي شَفَتي
مِن شِدةِ الإعجابْ!
**
أوْهَمْتُكـمْ بأنَّ بعضَ الأنظِمـهْ
غربيّـةٌ.. لكنّها مُترجَمـهْ
وأنّها لأَتفَهِ الأسبابْ
تأتي على دَبّابَةٍ مُطَهّمَـهْ
فَتنْـشرُ الخَرابْ
وتجعَلُ الأنـامَ كالدّوابْ
وتضرِبُ الحِصارَ حولَ الكَلِمـهْ.
أستَغفرُ اللهَ .. فما أكذَبني!
فَكُلُّها أنظِمَـةٌ شرْعيّةٌ
جـاءَ بهـا انتِخَابْ
وكُلُّها مؤمِنَـةٌ تَحكُمُ بالكتابْ
وكُلُّها تستنكِرُ الإرهـابْ
وكُلّها تحترِمُ الرّأيَ
وليستْ ظالمَهْ
وكُلّهـا
معَ الشعوبِ دائمـاً مُنسَجِمـهْ!
**
قُلتُ لكُمْ: إنَّ الشّعوبَ المُسلِمهْ
رغمَ غِنـاها .. مُعْدمَـهْ
وإنّها بصـوتِها مُكمّـمَهْ
وإنّهـا تسْجُـدُ للأنصـابْ
وإنَّ مَنْ يسرِقُها يملِكُ مبنى المَحكَمهْ
ويملِكُ القُضـاةَ والحُجّـابْ.
أستغفرُ اللّهَ .. فما أكذَبَني!
فهاهيَ الأحزابْ
تبكي لدى أصنامها المُحَطّمـهْ
وهاهوَ الكرّار يَدحوْ البابْ
على يَهودِ الدّونِمَـهْ
وهاهوَ الصِّدّيقُُ يمشي زاهِـداً
مُقصّـرَ الثيابْ
وهاهوَ الدِّينُ ِلفَرْطِ يُسْـرِهِ
قَـدْ احتـوى مُسيلَمـهْ
فعـادَ بالفتحِ .. بلا مُقاوَمـهْ
مِن مكّـةَ المُكرّمَـهْ!
**
يا ناسُ لا تُصدّقـوا
فإنّني كذَابْ!
انحنـاء السنبلة
أنا مِـن تُرابٍ ومـاءْ
خُـذوا حِـذْرَكُمْ أيُّها السّابلهْ
خُطاكُـم على جُثّتي نازلـهْ
وصَمـتي سَخــاءْ
لأنَّ التُّرابَ صميمُ البقـاءْ
وأنَّ الخُطى زائلـهْ.
ولَكنْ إذا ما حَبَستُمْ بِصَـدري الهَـواءْ
سَـلوا الأرضَ عنْ مبدأ الزّلزلهْ !
**
سَلـوا عنْ جنونـي ضَميرَ الشّتاءْ
أنَا الغَيمَـةُ المُثقَلهْ
إذا أجْهَشَتْ بالبُكاءْ
فإنَّ الصّواعقَ في دَمعِها مُرسَلَهْ!
**
أجلً إنّني أنحني
فاشهدوا ذُلّتي الباسِلَهْ
فلا تنحني الشَّمسُ
إلاّ لتبلُغَ قلبَ السماءْ
ولا تنحني السُنبلَهْ
إذا لمْ تَكُن مثقَلَهْ
ولكنّها سـاعَةَ الإنحنـاءْ
تُواري بُذورَ البَقاءْ
فَتُخفي بِرحْـمِ الثّرى
ثورةً .. مُقْبِلَـهْ!
**
أجَلْ.. إنّني أنحني
تحتَ سَيفِ العَناءْ
ولكِنَّ صَمْتي هوَ الجَلْجَلـهْ
وَذُلُّ انحنائـي هوَ الكِبرياءْ
لأني أُبالِغُ في الإنحنـاءْ
لِكَي أزرَعَ القُنبُلَـهْ!
* الطبعة الأولى (الكويت) -1984
لافتات 2
إضـراب
الوردُ في البستانْ
ممالكٌ مُترَفـةٌ، طريّـةُ الجُـدْرانْ
تيجانُها تسبحُ في بَرْدِ النـدى
والنّـورِ والعطـورْ
في سـاعةِ البكـورْ
وتستوي كسلـى على عُروشِها .
وتحـتَ ظُلمَـةِ الثّرى
والبؤسِ والهـوانْ
تسافرُ الجُـذوُر في أحزانِهـا
كي تضحـكَ التيجانْ !
**
الوردُ في البُستانْ
ممالِكٌ مُترفَـةٌ تسبحُ في الغرورْ
بذكرِها تُسبِّحُ الطّيـورْ
ويسبحُ الفراشُ في رحيقِها
وتسبحُ الجـذورْ
في ظُلمـةِ النسيانْ
**
الوردُ في البُستانْ
أصبَحَ .. ثُمَّ كانْ
في غفلَـةٍ تهدّلـتْ رؤوسُـهُ
وخـرّتْ السّيقانْ
إلى الثّـرى
ثُـمّ هَـوَتْ من فوقِها التّيجـانْ !
**
مرّتْ فراشتانْ
وردّدت إحداهُمـا :
قَـدْ أعلنَتْ إضـرابَها الجـذورْ !
**
ما أجبنَ الإنسانْ
ما أجبَنَ الإنسـانْ
ما أجبنَ الإنسـانْ !
إعتـذار
صِحـتُ مِـن قسـوةِ حالـي :
فـوقَ نَعلـي
كُلُّ أصحـابِ المعالـي !
قيـلَ لي : عَيبٌ
فكرّرتُ مقالـي .
قيلَ لي : عيبٌ
وكرّرتُ مقالي .
ثُـمّ لمّا قيلَ لي : عيبٌ
تنبّهتُ إلى سـوءِ عباراتي
وخفّفتُ انفعالـي .
ثُـمّ قدّمـتُ اعتِـذاراً
.. لِنِعالـي !
صنـدوق العجائب
فـي صِغَـري
فَتَحْـتُ صُـندوقَ اللُّعَـبْ .
أخْرَجـتُ كُرسيّاً موشّـى بالذّهَـبْ
قامَـتْ عليـهِ دُميَـةٌ مِنَ الخَشَـبْ
في يدِهـا سيفُ قَصَـبْ
خَفَضـتُ رأسَ دُميَتي
رَفعْتُ رأسَ دُمـيتي
خَلَعتُهـا .
نَصَبتُهـا .
خَلعتُها .. نَصبتُها
حـتّى شَعَرتُ بالتّعَـبْ
فما اشتَكَـتْ مـن اختِلافِ رغبتي
ولا أحسـّتْ بالغَضـبْ !
وَمثلُها الكُرسـيُّ تحتَ راحَـتي
مُزَوّقٌ بالمجـدِ .. وهـوَ مُستَلَبْ .
فإنْ نَصَبتـهُ انتصـبْ
وإنْ قَلبتُـهُ انقَلَـبْ !
أمتَعني المشهـدُ،
لكـنّ أبـي
حينَ رأى المشهدَ خافَ واضطَرَبْ
وخَبّـأَ اللعبـةَ في صُـندوقِها
وشَـدَّ أُذْنـي .. وانسحَـبْ !
**
وَعِشتُ عُمـري غارِقـاً في دهشتي .
وعنـدما كَبِرتُ أدركتُ السّببْ
أدركتُ أنَّ لُعبتي
قـدْ جسّـدَتْ
كُلَّ سلاطينِ العـرَبْ !
التكفير والثـورة
كفرتُ بالأقـلامِ والدفاتِـرْ .
كفرتُ بالفُصحـى التي
تحبَـلُ وهـيَ عاقِـرْ .
كَفَرتُ بالشِّعـرِ الذي
لا يُوقِفُ الظُّلمَ ولا يُحرِّكُ الضمائرْ .
لَعَنتُ كُلَّ كِلْمَةٍ
لمْ تنطَلِـقْ من بعـدها مسيرهْ
ولـمْ يخُطِّ الشعبُ في آثارِها مَصـيرهْ .
لعنتُ كُلَّ شاعِـرْ
ينامُ فوقَ الجُمَلِ النّديّـةِ الوثيرهْ
وَشعبُهُ ينـامُ في المَقابِرْ .
لعنتُ كلّ شاعِـرْ
يستلهِمُ الدّمعـةَ خمـراً
والأسـى صَبابَـةً
والموتَ قُشْعَريـرهْ .
لعنتُ كلّ شاعِـرْ
يُغازِلُ الشّفاهَ والأثداءَ والضفائِرْ
في زمَنِ الكلابِ والمخافِـرْ
ولا يرى فوهَـةَ بُندُقيّـةٍ
حينَ يرى الشِّفاهَ مُستَجِيرهْ !
ولا يرى رُمّانـةً ناسِفـةً
حينَ يرى الأثـداءَ مُستديرَهْ !
ولا يرى مِشنَقَةً
حينَ يرى الضّفـيرهْ !
**
في زمَـنِ الآتينَ للحُكـمِ
على دبّابـةٍ أجـيرهْ
أو ناقَـةِ العشيرهْ
لعنتُ كلّ شاعِـرٍ
لا يقتـنى قنبلـةً
كي يكتُبَ القصيـدَةَ الأخيرهْ !
مأسـاة أعـواد الثقاب
أوطانـي عُلبـةُ كبريتٍ
والعُلبَـةُ مُحكَمَـةُ الغلْـقْ
وأنـا في داخِلها
عُـودٌ محكـومٌ بالخَنْـقْ .
فإذا ما فتَحتْها الأيـدي
فلِكـي تُحـرِقَ جِلـدي
فالعُلبَـةُ لا تُفتـحُ دَومـاً
إلاّ للغربِ أو الشّرقْ
إمـَّا للحَـرقِ، أو الحَـرقْ
**
يا فاتِـحَ عُلبتِنا الآتـي
حاوِلْ أنْ تأتـي بالفَـرقْ
الفتـحُ الرّاهِـنُ لا يُجـدي
الفتـحُ الرّاهِـنُ مرسـومٌ ضِـدّي
ما دامَ لِحَـرقٍ أو حَـرقْ .
إسحَـقْ عُلبَتنا، وانثُرنـا
لا تأبَـهْ لوْ ماتَ قليلٌ منّـا
عنـدَ السّحـقْ .
يكفي أنْ يحيا أغلَبُنا حُـرّاً
في أرضٍ بالِغـةِ الرِفـقْ .
الأسـوارُ عليها عُشْـبٌ
.. والأبوابُ هَـواءٌ طَلـقْ!
هـذه الأرضُ لنـا
قُـوتُ عِيالِنا هُنـا
يُهـدِرُهُ جلالـةُ الحِمـارْ
في صـالـةِ القِمـارْ .
وكُلُّ حقّـهِ بـهِ
أنَّ بعـيرَ جـدِّهِ
قَـدْ مَـرّ قبـلَ غيرِهِ
بِهـذِهِ الآبـارْ !
يا شُـرَفاءُ
هـذهِ الآرضُ لَنـا.
الزّرعُ فوقَهـا لَنـا
والنِّفـطُ تحتَهـا لَنـا
وكُلُّ ما فيها بماضيها وآتيها لنا .
فما لَنا
في البرْدِ لا نَلبسُ إلاّ عُرْيَنـا ؟
وما لَنـا
في الجـوعِ لا نأكُلُ إلاَّ جوعَنـا ؟
وما لَنا نغرقُ وَسْـطَ القـارْ
في هـذهِ الآبـارْ
لكـي نصـوغَ فقرَنا
دِفئاً، وزاداً، وغِـنى
مِـنْ أجْـلِ أولادِ الزّنـى ؟!
أحرقـي في غُربتي سفـني
أَلأَنّـني
أُقصيتُ عنْ أهلي وعن وطني
وجَرعتُ كأسَ الذُّلِّ والمِحَـنِ
وتناهبَـتْ قلـبي الشجـونُ
فذُبتُ من شجَـني
ألأَنـني
أبحَـرتُ رغـمَ الرّيـحِ
أبحثُ في ديارِ السّحـرِ عن زَمَـني
وأردُّ نارَ القهْـرِ عَـنْ زهـري
وعَـنْ فَـنَني
عطّلتِ أحلامـي
وأحرقتِ اللقـاءَ بموقِـدِ المِنَنِ ؟!
ما ساءني أن أقطَـعَ الفلَوَاتِ
مَحمولاً على كَفَني
مستوحِشـاً في حومَـةِ الإمـلاقِ والشّجَنِ
ما ساءنـي لثْمُ الرّدى
ويسوؤني
أنْ أشتري شَهْـدَ الحيـاةِ
بعلْقـمِ التّسليمِ للوثنِ
**
ومِنَ البليّـةِ أنْ أجـودَ بما أُحِـسُّ
فلا يُحَسُّ بما أجـودْ
وتظلُّ تنثالُ الحُـدودُ على مُنايَ
بِلا حـدودْ
وكأنّني إذْ جئتُ أقطَـعُ عن يَـديَّ
على يديكِ يَـدَ القيـودْ
أوسعْـتُ صلصَلةَ القيـودْ !
ولقَـدْ خَطِبتُ يـدَ الفراقِ
بِمَهْـرِ صَـبْري، كي أعـودْ
ثَمِـلاً بنشوةِ صُبحـيَ الآتـي
فأرخيتِ الأعِنّـةَ : لنْ تعـودْ
فَطَفـا على صـدري النّشيجُ
وذابَ في شَفَتي النّشيـدْ !
**
أطلقتُ أشرِعَـةَ الدّمـوعِ
على بحـارِ السّـرّ والعَلَـنِ :
أنـا لن أعـودَ
فأحرقـي في غُربتي سُفُـني
وارمـي القلـوعَ
وسمِّـري فـوقَ اللّقـاءِ عقاربَ الزّمَـنِ
وخُـذي فـؤادي
إنْ رضيتِ بِقلّـةِ الثّمَـنِ !
لكـنّ لي وَطَناً
تعفّـرَ وجهُـهُ بدمِ الرفاقِ
فضـاعَ في الدُّنيـا
وضيّعني
وفـؤادَ أُمٍّ مُثقلاً بالهـمِّ والحُـزُنِ
كانتْ توَدِّعُـني
وكانَ الدَّمـعُ يخذلُهـا
فيخذلُني .
ويشدُّني
ويشدُّني
ويشدُّني
لكنَّ موتي في البقـاءِ
وما رضيتُ لِقلبِها أن يرتَـدي كَفَني
**
أَنَا يا حبيبـةُ
ريشـةٌ في عاصِفِ المِحَـنِ
أهفـو إلى وَطَـني
وتردُّني عيناكِ .. يا وَطني
فأحـارُ بينكُما
أَأرحَـلُ مِـنْ حِمى عَـدَنٍ إلى عَـدَنِ ؟
كمْ أشتهي ، حينَ الرحيلِ
غـداةَ تحملُني
ريحُ البكـورِ إلى هُناكَ
فأرتَـدي بَـدَني
أنْ تُصبِحـي وطَنـاً لقلبي
داخِـلَ الوَطَـنِ !
نهايـة المشروع
أحضِـرْ سلّـهْ
ضَـعُ فيها " أربعَ تِسعاتٍ "
ضَـعُ صُحُفاً مُنحلّـهْ .
ضـعْ مذياعاً
ضَـعْ بوقَـاً، ضَـعْ طبلَـهْ .
ضـعْ شمعاً أحمَـرَ،
ضـعْ حبـلاً،
ضَـع سكّيناً ،
ضَـعْ قُفْلاً .. وتذكّرْ قَفْلَـهْ .
ضَـعْ كلباً يَعقِـرْ بالجُملَـهْ
يسبِقُ ظِلّـهْ
يلمَـحُ حتّى اللاأشياءَ
ويسمعُ ضِحـْكَ النّملَـهْ !
واخلِطْ هـذا كُلّـهْ
وتأكّـدْ منْ غَلـقِ السّلـهْ .
ثُمَّ اسحبْ كُرسيَّاً واقعـُـدْ
فلقَـدْ صـارتْ عِنـدَكَ
.. دولَـهْ !
هويّـة
في مطـارٍ أجنبيْ
حَـدّقَ الشّرطيُّ بيْ
- قبلَ أنْ يطلُبَ أوراقـي -
ولمّـا لم يجِـدْ عِنـدي لساناً أو شَفَـهْ
زمَّ عينَيــهِ وأبـدى أسَفَـهْ
قائلاً : أهلاً وسهـلاً
.. يا صـديقي العَرَبـي !
شـؤون داخليّـة
وطَـني ثَوبٌ مُرَقَّـعْ
كُلّ جُزءٍ فيهِ مصنوعٌ بِمصنَـعْ
وعلى الثّوبِ نُقوشٌ دَمويّـهْ
فرّقـتْ أشكالَها الأهـواءُ
لكِــنْ
وحّـدتْ ما بَينَها نفـسُ الهَـويّـهْ :
عِفّـةٌ واسِعـةٌ تَشقى
وعِهْـرٌ يَتمتَّـعْ !
**
وَطَني : عِشرونَ جـزّاراً
يَسوقـونَ إلى المسلَخِ
قُطعـانَ خِرافٍ آدميّـهْ !
وإذا القُطعـانُ راحـتْ تتضـرّعْ
لم تَجِـدْ عيناً ترى
أو أُذُنـاُ من خارجِ المسلخِ .. تسمَعْ
فطقوسُ الذّبحِ شـأنٌ داخِلـيٌّ
والأصـولُ الدُّوَليّـهْ
تَمنعُ المَسَّ بأوضـاعِ البلادِ الدّاخليّـهْ .
إنّمـا تسمَحُ أن تَدخُلَ أمريكا علينا
في شؤونِ السّلمِ والحَـربِ
وفي السّلْـبِ وفي النّهْـبِ
وفي البيتِ وفي الدّربِ
وفي الكُتْبِ
وفي النّـومِ وفي الأكلِ وفي الشُّربِ
وحتّى في الثّيابِ الدّاخليّـهْ !
فإذا ما ظلّتِ التّيجانُ تَلْمَـعْ
وإذا ظلّت جياعُ الكـوخِ
تَستجـدي بأثـداءِ عذاراها لِتدفَـعْ
وكِلابُ القَصْـرِ تَبلَـعْ
وإذا لم يبقَ من كُلِّ أراضينا
سِـوى متْرٍ مُربـّعْ
يَسَـعُ الكُرسـيَّ والوالـي
فإنَّ الوَضْـعَ في خيرٍ ..
وأمريكـا سَخيّـهْ !
**
فَرّقَتْنـا وحـدَةُ الصَّـفِّ
علـى طَبـلٍ وَدَفِّ
وَتَوحّـدْنا بتقبيلِ الأيـادي الأجنَبيّـهْ .
عَـرَبٌ نحـنُ .. ولكِـنْ
أرضُنا عادتْ بِلا أرضٍ
وعُدنـا فوقَها دونَ هويَـهْ .
فَبِحـقِ ( البيتِ )
.. والبيتِ المُقَنّـعْ
وبِجـاهِ التّبَعيّـهْ
أعطِنا ياربُّ جنسيّـةَ أمريكا
لكي نحيا كِرامَـاً
في البِـلادِ العَربيَـهْ !
حـوار على باب المنفى
* لماذا الشِّعْرُ يا مَطَـرُ ؟
- أتسألُني
لِماذا يبزغُ القَمَـرُ ؟
لماذا يهطِلُ المَطَـرُ ؟
لِماذا العِطْـرُ ينتشِرُ ؟
أَتسأَلُني : لماذا ينزِلُ القَـدَرُ ؟!
أنَـا نَبْتُ الطّبيعـةِ
طائـرٌ حُـرٌّ،
نسيمٌ بارِدٌ ،حَـرَرُ
محَـارٌ .. دَمعُـهُ دُرَرُ !
أنا الشَجَـرُ
تمُـدُّ الجـَذْرَ من جـوعٍ
وفـوقَ جبينِها الثّمَـرُ !
أنا الأزهـارُ
في وجناتِها عِطْـرٌ
وفي أجسادِها إِبَـرُ !
أنا الأرضُ التي تُعطي كما تُعطَى
فإن أطعَمتها زهـراً
ستَزْدَهِـرُ .
وإنْ أطعَمتها ناراً
سيأكُلُ ثوبَكَ الشّررُ .
فليتَ ( اللاّتَ ) يعتَبِرُ
ويكسِـرُ قيـدَ أنفاسي
ويَطْلبُ عفـوَ إحسـاسي
ويعتَـذِرُ !
* لقد جاوزتَ حَـدَّ القـولِ يا مَطَـرُ
ألا تدري بأنّكَ شاعِـرٌ بَطِـرُ
تصوغُ الحرفَ سكّيناً
وبالسّكينِ تنتَحِــرُ ؟!
- أجَـلْ أدري
بأنّي في حِسـابِ الخانعينَ، اليـومَ،
مُنتَحِـرُ
ولكِـنْ .. أيُّهُم حيٌّ
وهُـمْ في دوُرِهِـمْ قُبِـروا ؟
فلا كفُّ لهم تبدو
ولا قَـدَمٌ لهـمْ تعـدو
ولا صَـوتٌ، ولا سَمـعٌ، ولا بَصَـرُ .
خِـرافٌ ربّهـمْ عَلَـفٌ
يُقـالُ بأنّهـمْ بَشَـرُ !
* شبابُكَ ضائـعٌ هَـدَراً
وجُهـدُكَ كُلّـهُ هَـدَرُ .
بِرمـلِ الشّعْـرِ تبني قلْعَـةً
والمـدُّ مُنحسِـرُ
فإنْ وافَـتْ خيولُ الموجِ
لا تُبقـي ولا تَـذَرُ !
- هُـراءٌ ..
ذاكَ أنَّ الحـرفَ قبلَ الموتِ ينتَصِـرُ
وعِنـدَ الموتِ ينتَصِـرُ
وبعـدَ الموتِ ينتَصِـرُ
وانَّ السّيفَ مهمـا طالَ ينكَسِـرُ
وَيصْـدأُ .. ثمّ يندَثِـرُ
ولولا الحرفُ لا يبقى لهُ ذِكْـرٌ
لـدى الدُّنيـا ولا خَـبَرُ !
* وماذا مِن وراءِ الصّـدقِ تنتَظِـرُ ؟
سيأكُلُ عُمْـرَكَ المنفـى
وتَلقى القَهْـرَ والعَسْـفا
وترقُـبُ ساعـةَ الميلادِ يوميّاً
وفي الميلادِ تُحتضَـرُ !
- وما الضّـرَرُ ؟
فكُلُّ النّاسِ محكومـونَ بالإعـدامِ
إنْ سكَتـوا، وإنْ جَهَـروا
وإنْ صَبَـروا، وإن ثأَروا
وإن شَكـروا، وإن كَفَـروا
ولكنّي بِصـدْقي
أنتقي موتاً نقيّـاً
والذي بالكِذْبِ يحيا
ميّتٌ أيضَـاً
ولكِـنْ موتُـهُ قَـذِرُ !
* وماذا بعْـدُ يا مَطَـرُ ؟
- إذا أودى بيَ الضّجَـرُ
ولـمْ أسمَعْ صـدى صـوتي
ولـمْ ألمَـح صـدى دمعـي
بِرَعْـدٍ أو بطوفـانِ
سأحشِـدُ كُلّ أحزانـي
وأحشِـدُ كلّ نيرانـي
وأحشِـدُ كُلّ قافيـةٍ
مِـنَ البارودِ
في أعمـاقِ وجـداني
وأصعَـدُ من أساسِ الظُلْمِ للأعلى
صعـودَ سحابـةٍ ثكْـلى
وأجعَـلُ كُلّ ما في القلبِ
يستَعِـرُ
وأحضُنُـهُ .. وَأَنفَجِـرُ !
* الطبعة الأولى (لنـدن) -1987
|